Tuesday, February 18, 2014

لزوم التفرقة .. بين الأهداف الثابتة والوسائل المتغيرة.

التفرقة بين الأهداف الثابتة والوسائل المتغيرة من أهم القضايا المنهجية التي تعين المسلم على التمييز بين حرفية النص وبين المغزى من وراءه ، وبها يستطيع أن يفهم القرآن وينتفع بالسنة بشكل منهجي صحيح يحقق الفائدة والمقصود.
هذه الأهداف الثابتة تعتبر بمثابة المقاصد والمصالح التي ارادها الشارع وقصد منها ان تكون في حياة البشر حقيقة قابلة للتطبيق حتى تكون حياتهم سهلة ميسرة بعيدة عما يعكر صفوها. تلك الاهداف والمصالح هي مقصود التشريع وهدفه.
والإمام القرافي رحمة الله عليه يفرق بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل في كتابه "الفروق" فيقول : "موارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل.  غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها. والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل. وكلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة فإنها تبع له في الحكم".
هذه الوسائل قد تتغير من زمان الى زمان ومن مكان الى آخر ، والنص عليها في القرآن الكريم ماهو إلا من قبيل بيان الواقع ، وتبيان أن هذه الوسيلة أو تلك هي مناسبة لمكان معين وزمان معين ، وعليه فليس المقصود الوقوف عندها ، بل المقصود هو العمل على التفكير في وسائل أخرى متطورة بتطور الزمان والمكان.
وفي هذا المعنى يقول الشيخ القرضاوي في كتابه "كيف نتعامل مع السنة" : "أن بعض الناس خلطوا بين المقاصد والأهداف الثابتة التي تسعى السنة إلى تحقيقها، وبين الوسائل الآنية والبيئية التي تعينها أحيانا للوصول إلى الهدف المنشود.  فتراهم يركّزون كل التركيز على هذه الوسائل كأنها مقصودة لذاتها، مع أن الذي يتعمق في فهم السنة وأسرارها يتبين له أن المهم هو الهدف وهو الثابت والدائم ، والوسائل قد تتغير بتغير البيئة أو العصر أو العرف أو غير ذلك من المؤثرات".
وضوح هذا التفريق بين الأهداف والوسائل يعين العباد على التمييز بين مقاصد العبادات وأشكالها ، فيحرصون على اللب والجوهر كما يحرصون على الشكل والمظهر.
ومن التطبيقات في واقعنا الاسلامي المعاصر والتي تستدعي منا تمام التفرقة بين الاهداف الثابتة والوسائل المتغيرة هي رؤية هلال شهر رمضان والاختلاف الذي تعاني منه الأمة كل عام فتختلف الدول وتتفرق الشعوب وذلك بسبب الخلط بين المقصد والوسيلة او التمسك بالوسيلة وان ضاع المقصد!
 جاء في الحديث الصحيح المشهور : " صوموا لرؤيته (أي الهلال) وأفطروا لرؤيته , فإن غم عليكم فأقدروا له " وفي لفظ آخر "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ".
هذا الحديث الشريف تحدث عن هدف وغاية وحدد وسيلة. فالهدف من الحديث هو صيام رمضان كله باايامه المحددة فلايضيعواً يوماً منه ولايصوموا يوما من شهرٍ آخر ، وذلك يكون بإثبات دخول الشهر أو الخروج منه , بوسيلة ممكنة يستطيع العباد القيام بها بدون تكلف او تعب.
في ذلك الزمن كانت الوسيلة المتاحة هي الرؤية بالإبصار ، كانت هذه الوسيلة سهلة معروفة ولذا قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتحديدها بعينها ، بخلاف اي وسيلة اخرى غير معروفة قد تعاني الأمة العنت من تطبيقها اذا لم تكن تعلمها او تعرف كيفية تطبيقها ، كالحساب الفلكي مثلاً!  خصوصاً ان الأمة في ذلك الزمان كانت أمة أمية لا تكتب ولا تعرف الحساب، فكان تكليفها بهكذا تكليف فيه عسر، والله لا يريد بأمته إلا اليسر , وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن نفسه :"إن الله بعثني معلما ميسرا , ولم يبعثني معنتا".
   لذا أليس من الأولى متى ماكانت هناك وسيلة أيسر في التطبيق وأقدر على تحقيق الهدف من الحديث وأبعد ماتكون عن الخطأ ، في ظل ماينعم به العالم أجمع في زماننا هذا من علمٍ بشري وتفوق حضاري بلغ مبلغاً لم يبلغه من قبل ، أن تأخذ الأمة بها وتسعى الى تطبيقها ، وبذلك تحقق الأمة الهدف من الحديث ، وتحقق بها أهداف أسمى ، فتجتمع الأمة ولاتختلف وتتوحد ولا تفترق ، وتتحقق وحدة الأمة في ظل وسيلة ميسورة وبدون الجمود على وسيلة ليست مقصودة لذاتها.
إن الأخذ بالحساب الفلكي هو وسيلة ناجعة اليوم ، والقبول به أولى ، فالسنة النبوية لا ترفض أي وسيلة أكمل في تحقيق المقصود وأدعى لتحقيق الغاية والمراد ، فالإنتقال بالأمة من الإختلاف الى الوحدة في شعائرها عبر وسيلة الحساب الفلكي هو هدف اسمى من خروجها من الوحدة الى الاختلاف عبر التمسك بنصية حرفية لوسيلة الابصار بالعين المجردة.
ومن هذا القبيل كان تعيين السواك لتطهير الأسنان في حديث  "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " ، فالهدف هو طهارة الفم , حتى يرضى الرب ، وليس السواك في حد ذاته.  فالسواك ليس هو المقصود لذاته ,  ولكن كانت الإشارة هنا لوسيلة ملائمة ميسورة في جزيرة العرب ، فكانت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم تلك من باب التيسيير ومن باب إستخدام مايؤدي الغرض بطريقة بعيدة عن العنت والتكلف.
بهذا الفهم كان من الأولى أن تتغير هذه الوسيلة في مجتمعات أخرى لا يتوفر لها السواك ، إلى وسيلة يمكن تصنيعها بوفرة تكفي مئات الملايين من الناس , مثل (الفرشاة) ، طالما تحقق الهدف والغاية وهو طهارة الفم التي ترضي الله عزوجل.
أختم بهذا القول النفيس للإمام العز بن عبدالسلام رحمه الله من كتابه "قواعد الأحكام في إصلاح الأنام"  :  "إن الواجبات والمندوبات ضربان: أحدهما مقاصد والثاني وسائل، وكذلك المكروهات والمحرمات ضربان: أحدهما مقاصد والثاني وسائل، وللوسائل أحكام المقاصد. فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل ثم تترتب الوسائل بترتب المصالح والمفاسد".

----------------------------------
قائمة المصادر:
١- رياض أدهمي ، المقاصد والوسائل ، http://www.alrashad.org/issues/11/11-Adhami.htm ، تم الدخول في ١٢/ ١/ ٢٠١٤م.
٢- صلاح الدين سلطان ، ثبوت الهلال بالحساب الفلكي .. أحكام فقهية ومقاصد تربوية ودعوية، ٦/ ١١/ ٢٠١٢م ، http://www.salahsoltan.com/DrasatBhoos/192/Default.aspx ، تم الدخول في ١٢/ ١/ ٢٠١٤م.
٣- شهاب الدين القرافي ، الفروق ، لبنان ، دار الكتب العلمية ، ١٩٩٨.
٤- يوسف القرضاوي ، كيف نتعامل مع السنة النبوية .. معالم وضوابط ، الولايات المتحدة ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، ١٩٩٣.
٥- عزالدين بن عبدالسلام ، قواعد الأحكام في إصلاح الأنام ، دمشق ، دار القلم ، ٢٠٠٠.

الإمام الشاطبي ومقاصد الشريعة .. أثرٌ وإثراء.

تزخر الشريعة الإسلامية بعلماء أفذاذ ، خلد التاريخ ذكرهم ، والشاطبي رحمة الله عليه كان نجماً ساطعاً بين علماء عصره ، وله منزلة عالية رفيعة بين علماء الشريعة الإسلامية ، جاءت نتيجة دوره الكبير في إثراء التراث الإسلامي بالفكر الذي استندت إليه الأمة ولا زالت.
قدم الشيخ رشيد رضا لكتاب الإعتصام للإمام الشاطبي "بتعريف بين فيه أهمية الشاطبي في تاريخ الفكر التجديدي في الإسلام ، فذهب يقول : العلماء المستقلون في هذه الأمة ثلة من الأوليين وقليلٌ من الآخرين ، والإمام الشاطبي من هؤلاء القليل ، ومارأينا من آثاره الإ القليل ، رأينا كتاب (الموافقات) من قبل ورأينا كتاب (الإعتصام) اليوم ، فأنشدنا قول الشاعر:
قليلٌ منك يكفيني ولكن        قليلك لايقال له قليل
لكن المصنف بهذا الكتاب ، وبصنوه كتاب (الموافقات) الذي لم يسبق إلى مثله أيضاً ، من أعظم المجددين في الإسلام"(١).
وفي هذه المقاله سنتناول سيرته وأثره في علم المقاصد وجوانب إثرائه له.
مولده ونشأته وطلبه للعلم:
"هو الإمام العلامة المحقق الحافظ الجليل المجتهد أبو اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي ، الشهير بالشاطبي"(٢)
كانت ولادته بمدينة غرناطة ، وترجح ولادته بتاريخ ٧٢٠ هـ. بدء طلب العلم منذ حداثة سنه ، وتتلمذ على اعظم العلماء في زمانه ، وفي مختلف الفنون والعلوم ، يقول عن نفسه "لم أزل منذ فتق للفهم عقلي ، ووجه شطر العلم طلبي ، أنظر في عقلياته وشرعياته ، أصوله وفروعه ، لم أقتصر منه على علم دون علم ، ولا أفردت عن أنواعه نوعاً دون أخرى"(٣)
مرت حياته بثلاث مراحل مهمة ، كما يذكر الأستاذ عبدالحميد العلمي في كتابه (منهج الدرس الدلالي عند الإمام الشاطبي):
المرحلة الأولى : مرحلة طلب العلم :
وهي مرحلة ملازمة الشيوخ والتتلمذ على ايديهم ، ومن الذين اخذ عنهم في هذه المرحلة:
- محمد بن يوسف اليحصبي اللوشي المتوفى سنة ٧٥٢ هـ.
- محمد بن علي الفخار البيري المتوفى سنة ٧٥٤ هـ.
- محمد بن احمد المقري المتوفى سنة ٧٥٨ هـ.
المرحلة الثانية : مرحلة النضج والأستاذية :
وهي مرحلة التأليف والإفتاء ، وكانت فتاواه صادرة عن ملكة علمية ابدعت في فهم المصالح الشرعية.
المرحلة الثالثة : الإكتمال والدعوة إلى الإصلاح :
وكانت هذه المرحلة وليدة المرحلة السابقة ، والتي ساعدته على التعبير عن آرائه الإصلاحية ، وكانت نتيجتها عزله عن الإمامة ، الا ان هذا لم يصده عن متابعة حال الأمة ، وواصل طريقه وهو عاقد العزم ، متميزاً بالبصيرة والفقه والتجديد والإصلاح ، إلى ان توفاه الله في شهر شعبان عام ٧٩٠ م.
الشاطبي وعلم المقاصد:
أسهم الشاطبي إسهاماً كبيراً في علم المقاصد ، حتى أنه لقب بشيخ هذا العلم ، وانطلق الشاطبي في تأسيسه لهذا العلم من القرآن الكريم والسنة النبوية ، وكانت هذه ركيزته في محاولة تطهير الأمة من العادات والبدع التي انتشرت في عصره ، وبهذا الفهم حرص على ان تكون النصوص الشرعية واحوال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته المرجع الذي ترد اليه صغار الأمور قبل كبارها. واكد بهذا الفهم على ان "الأخد بالمصالح ليس مرسلاً بلا ضوابط ، وإنما لابد من مراعاة النصوص والمقاصد جميعاً ، بحيث لايكون إعتبار المقاصد في مقابل إهدار النصوص"(٤)
كما أنه أكد على مفهوم الكليات ، واعتبرها اساس التشريع ، وأنها من أصول الشريعة ، وهذه الكليات الخمس هي : حفظ الدين ، وحفظ النفس ، وحفظ العقل ، وحفظ العرض ، وحفظ المال ، وبهذا اصبح علم المقاصد يتمحور حول هذه الكليات ، ودور علم المقاصد هو مراعاة هذه الكليات ، إذ أن المصلحة تكمن في مراعاتها.
وكتابه (الموافقات في أصول الشريعة) والذي يعد من أهم كتب الشريعة ، ذكر عموم هذه الكليات ووضحها ، وهذا الكتاب "نقل نظرية مقاصد الشريعة ثلاث نقلات مهمة:
أ - أولاً: من (المصالح المرسلة) إلى (أصول الشريعة)
كانت المقاصد قبل كتاب (الموافقات) للشاطبي تعتبر جزء من (المصالح المرسلة) ، ولم ينظر إليها مطلقاً على أنها من (الأصول) بحد ذاتها ، وليست فرعاً من غيرها من الأصول ، وهو ما أشرنا إليه فيما سبق. فقد افتتح الشاطبي الجزء الخاص بالمقاصد من ضمن كتابه (الموافقات) بآيات من القرآن الكريم يقصد منها إثبات أن لله غايات في خلقه ، وفي إرسال الرسل ، وفي ما أنزله من شريعة ، ثم اعتبر المقاصد (أصول الدين وقواعد الشريعة وكليات الملة).
ب - ثانياً : من (الحكمة من وراء الأحكام) إلى (قواعد الأحكام)
اعتمد الشاطبي على فكرة أولوية المقاصد وعمومها ليصل إلى أن (الكليات) ، خاصة الضروريات ، لايمكن أن تحكم عليها الأحكام الجزئية . لقد كان هذا المبدأ نقلة حاسمة في الأصول التقليدية ، حتى ضمن المذهب المالكي الذي هو مذهب الشاطبي ، لأن المذهب المذكور يعطي الأولوية دوماً للدليل الخاص فوق الدليل العام . بل وجعل الشاطبي معرفة المقاصد شرطاً لازماً لسلامة الإجتهاد على كل مستوى.
ج - ثالثاً : من (الظنية) إلى (القطعية):
قام الشاطبي من أجل دعم المكانة الجديدة التي أولاها مقاصد الشريعة بين أصول الشريعة - قام بافتتاح كتابه حول المقاصد بإيراد الحجج على (قطعية) الإستقراء ، وهو المنهج الذي تبناه في التوصل إلى المقاصد مبدئياً ، وذلك بناء على عدد كبير من الأدلة التي ناقشها . وكانت هذه أيضاً نقلة منهجية تختلف عن المناهج السابقة المبنية على الفلسفة اليونانية ، والتي كانت دائماً ما تذكر بظنية الإستقراء. لقد أصبح كتاب الشاطبي هو المرجع في مقاصد الشريعة بين أيدي العلماء حتى القرن العشرين ، غير أن اقتراحه ان تصبح المقاصد هي أساس الشريعة لم يلاقِ نفس القبول الواسع".(٥)
كانت هذه نبذه عن شيخ المقاصد الإمام الشاطبي والذي كانت جهوده في نظر الكثير من العلماء كسباً حقيقياً للعلوم الإسلامية عامة وعلم المقاصد خاصة ، رحمه الله رحمة واسعه وأجزل له المثوبة والمغفرة.
------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
محمد حلمي عبدالوهاب، الإمام الشاطبي .. مؤسس علم المقاصد، ١-٨-٢٠١١، http://www.aawsat.com/details.asp?section=44&article=633770&issueno=11934#.UqkjCX8aySP ، ١٠-١٢-٢٠١٣
عبدالرحمن ابراهيم الكيلاني، قواعد المقاصد عند الامام الشاطبي عرضاً ودراسة وتحليلاً، دمشق، دار الفكر المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سبتمبر ٢٠٠٠، الصفحة ٢٠.
الأستاذ عبدالحميد العلمي، منهج الدرس الدلالي عند الإمام الشاطبي، المغرب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ٢٠٠١، الصفحة ٤٩.
محمد حلمي عبدالوهاب ، الإمام الشاطبي .. مؤسس علم المقاصد ، ١-٨-٢٠١١ ، http://www.aawsat.com/details.asp?section=44&article=633770&issueno=11934#.UqkjCX8aySP ، ١٠-١٢-٢٠١٣
جاسر عودة، مقاصد الشريعة دليل للمبتدئين، الولايات الايات المتحدة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ٢٠١١، الصفحة ٥٣-٥٤.