تزخر الشريعة الإسلامية بعلماء أفذاذ ، خلد التاريخ ذكرهم ، والشاطبي رحمة الله عليه كان نجماً ساطعاً بين علماء عصره ، وله منزلة عالية رفيعة بين علماء الشريعة الإسلامية ، جاءت نتيجة دوره الكبير في إثراء التراث الإسلامي بالفكر الذي استندت إليه الأمة ولا زالت.
قدم الشيخ رشيد رضا لكتاب الإعتصام للإمام الشاطبي "بتعريف بين فيه أهمية الشاطبي في تاريخ الفكر التجديدي في الإسلام ، فذهب يقول : العلماء المستقلون في هذه الأمة ثلة من الأوليين وقليلٌ من الآخرين ، والإمام الشاطبي من هؤلاء القليل ، ومارأينا من آثاره الإ القليل ، رأينا كتاب (الموافقات) من قبل ورأينا كتاب (الإعتصام) اليوم ، فأنشدنا قول الشاعر:
قليلٌ منك يكفيني ولكن قليلك لايقال له قليل
لكن المصنف بهذا الكتاب ، وبصنوه كتاب (الموافقات) الذي لم يسبق إلى مثله أيضاً ، من أعظم المجددين في الإسلام"(١).
وفي هذه المقاله سنتناول سيرته وأثره في علم المقاصد وجوانب إثرائه له.
مولده ونشأته وطلبه للعلم:
"هو الإمام العلامة المحقق الحافظ الجليل المجتهد أبو اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي ، الشهير بالشاطبي"(٢)
كانت ولادته بمدينة غرناطة ، وترجح ولادته بتاريخ ٧٢٠ هـ. بدء طلب العلم منذ حداثة سنه ، وتتلمذ على اعظم العلماء في زمانه ، وفي مختلف الفنون والعلوم ، يقول عن نفسه "لم أزل منذ فتق للفهم عقلي ، ووجه شطر العلم طلبي ، أنظر في عقلياته وشرعياته ، أصوله وفروعه ، لم أقتصر منه على علم دون علم ، ولا أفردت عن أنواعه نوعاً دون أخرى"(٣)
مرت حياته بثلاث مراحل مهمة ، كما يذكر الأستاذ عبدالحميد العلمي في كتابه (منهج الدرس الدلالي عند الإمام الشاطبي):
المرحلة الأولى : مرحلة طلب العلم :
وهي مرحلة ملازمة الشيوخ والتتلمذ على ايديهم ، ومن الذين اخذ عنهم في هذه المرحلة:
- محمد بن يوسف اليحصبي اللوشي المتوفى سنة ٧٥٢ هـ.
- محمد بن علي الفخار البيري المتوفى سنة ٧٥٤ هـ.
- محمد بن احمد المقري المتوفى سنة ٧٥٨ هـ.
المرحلة الثانية : مرحلة النضج والأستاذية :
وهي مرحلة التأليف والإفتاء ، وكانت فتاواه صادرة عن ملكة علمية ابدعت في فهم المصالح الشرعية.
المرحلة الثالثة : الإكتمال والدعوة إلى الإصلاح :
وكانت هذه المرحلة وليدة المرحلة السابقة ، والتي ساعدته على التعبير عن آرائه الإصلاحية ، وكانت نتيجتها عزله عن الإمامة ، الا ان هذا لم يصده عن متابعة حال الأمة ، وواصل طريقه وهو عاقد العزم ، متميزاً بالبصيرة والفقه والتجديد والإصلاح ، إلى ان توفاه الله في شهر شعبان عام ٧٩٠ م.
الشاطبي وعلم المقاصد:
أسهم الشاطبي إسهاماً كبيراً في علم المقاصد ، حتى أنه لقب بشيخ هذا العلم ، وانطلق الشاطبي في تأسيسه لهذا العلم من القرآن الكريم والسنة النبوية ، وكانت هذه ركيزته في محاولة تطهير الأمة من العادات والبدع التي انتشرت في عصره ، وبهذا الفهم حرص على ان تكون النصوص الشرعية واحوال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته المرجع الذي ترد اليه صغار الأمور قبل كبارها. واكد بهذا الفهم على ان "الأخد بالمصالح ليس مرسلاً بلا ضوابط ، وإنما لابد من مراعاة النصوص والمقاصد جميعاً ، بحيث لايكون إعتبار المقاصد في مقابل إهدار النصوص"(٤)
كما أنه أكد على مفهوم الكليات ، واعتبرها اساس التشريع ، وأنها من أصول الشريعة ، وهذه الكليات الخمس هي : حفظ الدين ، وحفظ النفس ، وحفظ العقل ، وحفظ العرض ، وحفظ المال ، وبهذا اصبح علم المقاصد يتمحور حول هذه الكليات ، ودور علم المقاصد هو مراعاة هذه الكليات ، إذ أن المصلحة تكمن في مراعاتها.
وكتابه (الموافقات في أصول الشريعة) والذي يعد من أهم كتب الشريعة ، ذكر عموم هذه الكليات ووضحها ، وهذا الكتاب "نقل نظرية مقاصد الشريعة ثلاث نقلات مهمة:
أ - أولاً: من (المصالح المرسلة) إلى (أصول الشريعة)
كانت المقاصد قبل كتاب (الموافقات) للشاطبي تعتبر جزء من (المصالح المرسلة) ، ولم ينظر إليها مطلقاً على أنها من (الأصول) بحد ذاتها ، وليست فرعاً من غيرها من الأصول ، وهو ما أشرنا إليه فيما سبق. فقد افتتح الشاطبي الجزء الخاص بالمقاصد من ضمن كتابه (الموافقات) بآيات من القرآن الكريم يقصد منها إثبات أن لله غايات في خلقه ، وفي إرسال الرسل ، وفي ما أنزله من شريعة ، ثم اعتبر المقاصد (أصول الدين وقواعد الشريعة وكليات الملة).
ب - ثانياً : من (الحكمة من وراء الأحكام) إلى (قواعد الأحكام)
اعتمد الشاطبي على فكرة أولوية المقاصد وعمومها ليصل إلى أن (الكليات) ، خاصة الضروريات ، لايمكن أن تحكم عليها الأحكام الجزئية . لقد كان هذا المبدأ نقلة حاسمة في الأصول التقليدية ، حتى ضمن المذهب المالكي الذي هو مذهب الشاطبي ، لأن المذهب المذكور يعطي الأولوية دوماً للدليل الخاص فوق الدليل العام . بل وجعل الشاطبي معرفة المقاصد شرطاً لازماً لسلامة الإجتهاد على كل مستوى.
ج - ثالثاً : من (الظنية) إلى (القطعية):
قام الشاطبي من أجل دعم المكانة الجديدة التي أولاها مقاصد الشريعة بين أصول الشريعة - قام بافتتاح كتابه حول المقاصد بإيراد الحجج على (قطعية) الإستقراء ، وهو المنهج الذي تبناه في التوصل إلى المقاصد مبدئياً ، وذلك بناء على عدد كبير من الأدلة التي ناقشها . وكانت هذه أيضاً نقلة منهجية تختلف عن المناهج السابقة المبنية على الفلسفة اليونانية ، والتي كانت دائماً ما تذكر بظنية الإستقراء. لقد أصبح كتاب الشاطبي هو المرجع في مقاصد الشريعة بين أيدي العلماء حتى القرن العشرين ، غير أن اقتراحه ان تصبح المقاصد هي أساس الشريعة لم يلاقِ نفس القبول الواسع".(٥)
كانت هذه نبذه عن شيخ المقاصد الإمام الشاطبي والذي كانت جهوده في نظر الكثير من العلماء كسباً حقيقياً للعلوم الإسلامية عامة وعلم المقاصد خاصة ، رحمه الله رحمة واسعه وأجزل له المثوبة والمغفرة.
------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
محمد حلمي عبدالوهاب، الإمام الشاطبي .. مؤسس علم المقاصد، ١-٨-٢٠١١، http://www.aawsat.com/details.asp?section=44&article=633770&issueno=11934#.UqkjCX8aySP ، ١٠-١٢-٢٠١٣
عبدالرحمن ابراهيم الكيلاني، قواعد المقاصد عند الامام الشاطبي عرضاً ودراسة وتحليلاً، دمشق، دار الفكر المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سبتمبر ٢٠٠٠، الصفحة ٢٠.
الأستاذ عبدالحميد العلمي، منهج الدرس الدلالي عند الإمام الشاطبي، المغرب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ٢٠٠١، الصفحة ٤٩.
محمد حلمي عبدالوهاب ، الإمام الشاطبي .. مؤسس علم المقاصد ، ١-٨-٢٠١١ ، http://www.aawsat.com/details.asp?section=44&article=633770&issueno=11934#.UqkjCX8aySP ، ١٠-١٢-٢٠١٣
جاسر عودة، مقاصد الشريعة دليل للمبتدئين، الولايات الايات المتحدة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ٢٠١١، الصفحة ٥٣-٥٤.
قدم الشيخ رشيد رضا لكتاب الإعتصام للإمام الشاطبي "بتعريف بين فيه أهمية الشاطبي في تاريخ الفكر التجديدي في الإسلام ، فذهب يقول : العلماء المستقلون في هذه الأمة ثلة من الأوليين وقليلٌ من الآخرين ، والإمام الشاطبي من هؤلاء القليل ، ومارأينا من آثاره الإ القليل ، رأينا كتاب (الموافقات) من قبل ورأينا كتاب (الإعتصام) اليوم ، فأنشدنا قول الشاعر:
قليلٌ منك يكفيني ولكن قليلك لايقال له قليل
لكن المصنف بهذا الكتاب ، وبصنوه كتاب (الموافقات) الذي لم يسبق إلى مثله أيضاً ، من أعظم المجددين في الإسلام"(١).
وفي هذه المقاله سنتناول سيرته وأثره في علم المقاصد وجوانب إثرائه له.
مولده ونشأته وطلبه للعلم:
"هو الإمام العلامة المحقق الحافظ الجليل المجتهد أبو اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي ، الشهير بالشاطبي"(٢)
كانت ولادته بمدينة غرناطة ، وترجح ولادته بتاريخ ٧٢٠ هـ. بدء طلب العلم منذ حداثة سنه ، وتتلمذ على اعظم العلماء في زمانه ، وفي مختلف الفنون والعلوم ، يقول عن نفسه "لم أزل منذ فتق للفهم عقلي ، ووجه شطر العلم طلبي ، أنظر في عقلياته وشرعياته ، أصوله وفروعه ، لم أقتصر منه على علم دون علم ، ولا أفردت عن أنواعه نوعاً دون أخرى"(٣)
مرت حياته بثلاث مراحل مهمة ، كما يذكر الأستاذ عبدالحميد العلمي في كتابه (منهج الدرس الدلالي عند الإمام الشاطبي):
المرحلة الأولى : مرحلة طلب العلم :
وهي مرحلة ملازمة الشيوخ والتتلمذ على ايديهم ، ومن الذين اخذ عنهم في هذه المرحلة:
- محمد بن يوسف اليحصبي اللوشي المتوفى سنة ٧٥٢ هـ.
- محمد بن علي الفخار البيري المتوفى سنة ٧٥٤ هـ.
- محمد بن احمد المقري المتوفى سنة ٧٥٨ هـ.
المرحلة الثانية : مرحلة النضج والأستاذية :
وهي مرحلة التأليف والإفتاء ، وكانت فتاواه صادرة عن ملكة علمية ابدعت في فهم المصالح الشرعية.
المرحلة الثالثة : الإكتمال والدعوة إلى الإصلاح :
وكانت هذه المرحلة وليدة المرحلة السابقة ، والتي ساعدته على التعبير عن آرائه الإصلاحية ، وكانت نتيجتها عزله عن الإمامة ، الا ان هذا لم يصده عن متابعة حال الأمة ، وواصل طريقه وهو عاقد العزم ، متميزاً بالبصيرة والفقه والتجديد والإصلاح ، إلى ان توفاه الله في شهر شعبان عام ٧٩٠ م.
الشاطبي وعلم المقاصد:
أسهم الشاطبي إسهاماً كبيراً في علم المقاصد ، حتى أنه لقب بشيخ هذا العلم ، وانطلق الشاطبي في تأسيسه لهذا العلم من القرآن الكريم والسنة النبوية ، وكانت هذه ركيزته في محاولة تطهير الأمة من العادات والبدع التي انتشرت في عصره ، وبهذا الفهم حرص على ان تكون النصوص الشرعية واحوال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته المرجع الذي ترد اليه صغار الأمور قبل كبارها. واكد بهذا الفهم على ان "الأخد بالمصالح ليس مرسلاً بلا ضوابط ، وإنما لابد من مراعاة النصوص والمقاصد جميعاً ، بحيث لايكون إعتبار المقاصد في مقابل إهدار النصوص"(٤)
كما أنه أكد على مفهوم الكليات ، واعتبرها اساس التشريع ، وأنها من أصول الشريعة ، وهذه الكليات الخمس هي : حفظ الدين ، وحفظ النفس ، وحفظ العقل ، وحفظ العرض ، وحفظ المال ، وبهذا اصبح علم المقاصد يتمحور حول هذه الكليات ، ودور علم المقاصد هو مراعاة هذه الكليات ، إذ أن المصلحة تكمن في مراعاتها.
وكتابه (الموافقات في أصول الشريعة) والذي يعد من أهم كتب الشريعة ، ذكر عموم هذه الكليات ووضحها ، وهذا الكتاب "نقل نظرية مقاصد الشريعة ثلاث نقلات مهمة:
أ - أولاً: من (المصالح المرسلة) إلى (أصول الشريعة)
كانت المقاصد قبل كتاب (الموافقات) للشاطبي تعتبر جزء من (المصالح المرسلة) ، ولم ينظر إليها مطلقاً على أنها من (الأصول) بحد ذاتها ، وليست فرعاً من غيرها من الأصول ، وهو ما أشرنا إليه فيما سبق. فقد افتتح الشاطبي الجزء الخاص بالمقاصد من ضمن كتابه (الموافقات) بآيات من القرآن الكريم يقصد منها إثبات أن لله غايات في خلقه ، وفي إرسال الرسل ، وفي ما أنزله من شريعة ، ثم اعتبر المقاصد (أصول الدين وقواعد الشريعة وكليات الملة).
ب - ثانياً : من (الحكمة من وراء الأحكام) إلى (قواعد الأحكام)
اعتمد الشاطبي على فكرة أولوية المقاصد وعمومها ليصل إلى أن (الكليات) ، خاصة الضروريات ، لايمكن أن تحكم عليها الأحكام الجزئية . لقد كان هذا المبدأ نقلة حاسمة في الأصول التقليدية ، حتى ضمن المذهب المالكي الذي هو مذهب الشاطبي ، لأن المذهب المذكور يعطي الأولوية دوماً للدليل الخاص فوق الدليل العام . بل وجعل الشاطبي معرفة المقاصد شرطاً لازماً لسلامة الإجتهاد على كل مستوى.
ج - ثالثاً : من (الظنية) إلى (القطعية):
قام الشاطبي من أجل دعم المكانة الجديدة التي أولاها مقاصد الشريعة بين أصول الشريعة - قام بافتتاح كتابه حول المقاصد بإيراد الحجج على (قطعية) الإستقراء ، وهو المنهج الذي تبناه في التوصل إلى المقاصد مبدئياً ، وذلك بناء على عدد كبير من الأدلة التي ناقشها . وكانت هذه أيضاً نقلة منهجية تختلف عن المناهج السابقة المبنية على الفلسفة اليونانية ، والتي كانت دائماً ما تذكر بظنية الإستقراء. لقد أصبح كتاب الشاطبي هو المرجع في مقاصد الشريعة بين أيدي العلماء حتى القرن العشرين ، غير أن اقتراحه ان تصبح المقاصد هي أساس الشريعة لم يلاقِ نفس القبول الواسع".(٥)
كانت هذه نبذه عن شيخ المقاصد الإمام الشاطبي والذي كانت جهوده في نظر الكثير من العلماء كسباً حقيقياً للعلوم الإسلامية عامة وعلم المقاصد خاصة ، رحمه الله رحمة واسعه وأجزل له المثوبة والمغفرة.
------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
محمد حلمي عبدالوهاب، الإمام الشاطبي .. مؤسس علم المقاصد، ١-٨-٢٠١١، http://www.aawsat.com/details.asp?section=44&article=633770&issueno=11934#.UqkjCX8aySP ، ١٠-١٢-٢٠١٣
عبدالرحمن ابراهيم الكيلاني، قواعد المقاصد عند الامام الشاطبي عرضاً ودراسة وتحليلاً، دمشق، دار الفكر المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سبتمبر ٢٠٠٠، الصفحة ٢٠.
الأستاذ عبدالحميد العلمي، منهج الدرس الدلالي عند الإمام الشاطبي، المغرب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ٢٠٠١، الصفحة ٤٩.
محمد حلمي عبدالوهاب ، الإمام الشاطبي .. مؤسس علم المقاصد ، ١-٨-٢٠١١ ، http://www.aawsat.com/details.asp?section=44&article=633770&issueno=11934#.UqkjCX8aySP ، ١٠-١٢-٢٠١٣
جاسر عودة، مقاصد الشريعة دليل للمبتدئين، الولايات الايات المتحدة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ٢٠١١، الصفحة ٥٣-٥٤.
No comments:
Post a Comment