التفرقة بين الأهداف الثابتة والوسائل المتغيرة من أهم القضايا المنهجية التي تعين المسلم على التمييز بين حرفية النص وبين المغزى من وراءه ، وبها يستطيع أن يفهم القرآن وينتفع بالسنة بشكل منهجي صحيح يحقق الفائدة والمقصود.
هذه الأهداف الثابتة تعتبر بمثابة المقاصد والمصالح التي ارادها الشارع وقصد منها ان تكون في حياة البشر حقيقة قابلة للتطبيق حتى تكون حياتهم سهلة ميسرة بعيدة عما يعكر صفوها. تلك الاهداف والمصالح هي مقصود التشريع وهدفه.
والإمام القرافي رحمة الله عليه يفرق بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل في كتابه "الفروق" فيقول : "موارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل. غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها. والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل. وكلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة فإنها تبع له في الحكم".
هذه الوسائل قد تتغير من زمان الى زمان ومن مكان الى آخر ، والنص عليها في القرآن الكريم ماهو إلا من قبيل بيان الواقع ، وتبيان أن هذه الوسيلة أو تلك هي مناسبة لمكان معين وزمان معين ، وعليه فليس المقصود الوقوف عندها ، بل المقصود هو العمل على التفكير في وسائل أخرى متطورة بتطور الزمان والمكان.
وفي هذا المعنى يقول الشيخ القرضاوي في كتابه "كيف نتعامل مع السنة" : "أن بعض الناس خلطوا بين المقاصد والأهداف الثابتة التي تسعى السنة إلى تحقيقها، وبين الوسائل الآنية والبيئية التي تعينها أحيانا للوصول إلى الهدف المنشود. فتراهم يركّزون كل التركيز على هذه الوسائل كأنها مقصودة لذاتها، مع أن الذي يتعمق في فهم السنة وأسرارها يتبين له أن المهم هو الهدف وهو الثابت والدائم ، والوسائل قد تتغير بتغير البيئة أو العصر أو العرف أو غير ذلك من المؤثرات".
وضوح هذا التفريق بين الأهداف والوسائل يعين العباد على التمييز بين مقاصد العبادات وأشكالها ، فيحرصون على اللب والجوهر كما يحرصون على الشكل والمظهر.
ومن التطبيقات في واقعنا الاسلامي المعاصر والتي تستدعي منا تمام التفرقة بين الاهداف الثابتة والوسائل المتغيرة هي رؤية هلال شهر رمضان والاختلاف الذي تعاني منه الأمة كل عام فتختلف الدول وتتفرق الشعوب وذلك بسبب الخلط بين المقصد والوسيلة او التمسك بالوسيلة وان ضاع المقصد!
جاء في الحديث الصحيح المشهور : " صوموا لرؤيته (أي الهلال) وأفطروا لرؤيته , فإن غم عليكم فأقدروا له " وفي لفظ آخر "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ".
هذا الحديث الشريف تحدث عن هدف وغاية وحدد وسيلة. فالهدف من الحديث هو صيام رمضان كله باايامه المحددة فلايضيعواً يوماً منه ولايصوموا يوما من شهرٍ آخر ، وذلك يكون بإثبات دخول الشهر أو الخروج منه , بوسيلة ممكنة يستطيع العباد القيام بها بدون تكلف او تعب.
في ذلك الزمن كانت الوسيلة المتاحة هي الرؤية بالإبصار ، كانت هذه الوسيلة سهلة معروفة ولذا قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتحديدها بعينها ، بخلاف اي وسيلة اخرى غير معروفة قد تعاني الأمة العنت من تطبيقها اذا لم تكن تعلمها او تعرف كيفية تطبيقها ، كالحساب الفلكي مثلاً! خصوصاً ان الأمة في ذلك الزمان كانت أمة أمية لا تكتب ولا تعرف الحساب، فكان تكليفها بهكذا تكليف فيه عسر، والله لا يريد بأمته إلا اليسر , وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن نفسه :"إن الله بعثني معلما ميسرا , ولم يبعثني معنتا".
لذا أليس من الأولى متى ماكانت هناك وسيلة أيسر في التطبيق وأقدر على تحقيق الهدف من الحديث وأبعد ماتكون عن الخطأ ، في ظل ماينعم به العالم أجمع في زماننا هذا من علمٍ بشري وتفوق حضاري بلغ مبلغاً لم يبلغه من قبل ، أن تأخذ الأمة بها وتسعى الى تطبيقها ، وبذلك تحقق الأمة الهدف من الحديث ، وتحقق بها أهداف أسمى ، فتجتمع الأمة ولاتختلف وتتوحد ولا تفترق ، وتتحقق وحدة الأمة في ظل وسيلة ميسورة وبدون الجمود على وسيلة ليست مقصودة لذاتها.
إن الأخذ بالحساب الفلكي هو وسيلة ناجعة اليوم ، والقبول به أولى ، فالسنة النبوية لا ترفض أي وسيلة أكمل في تحقيق المقصود وأدعى لتحقيق الغاية والمراد ، فالإنتقال بالأمة من الإختلاف الى الوحدة في شعائرها عبر وسيلة الحساب الفلكي هو هدف اسمى من خروجها من الوحدة الى الاختلاف عبر التمسك بنصية حرفية لوسيلة الابصار بالعين المجردة.
ومن هذا القبيل كان تعيين السواك لتطهير الأسنان في حديث "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " ، فالهدف هو طهارة الفم , حتى يرضى الرب ، وليس السواك في حد ذاته. فالسواك ليس هو المقصود لذاته , ولكن كانت الإشارة هنا لوسيلة ملائمة ميسورة في جزيرة العرب ، فكانت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم تلك من باب التيسيير ومن باب إستخدام مايؤدي الغرض بطريقة بعيدة عن العنت والتكلف.
بهذا الفهم كان من الأولى أن تتغير هذه الوسيلة في مجتمعات أخرى لا يتوفر لها السواك ، إلى وسيلة يمكن تصنيعها بوفرة تكفي مئات الملايين من الناس , مثل (الفرشاة) ، طالما تحقق الهدف والغاية وهو طهارة الفم التي ترضي الله عزوجل.
أختم بهذا القول النفيس للإمام العز بن عبدالسلام رحمه الله من كتابه "قواعد الأحكام في إصلاح الأنام" : "إن الواجبات والمندوبات ضربان: أحدهما مقاصد والثاني وسائل، وكذلك المكروهات والمحرمات ضربان: أحدهما مقاصد والثاني وسائل، وللوسائل أحكام المقاصد. فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل ثم تترتب الوسائل بترتب المصالح والمفاسد".
----------------------------------
قائمة المصادر:
١- رياض أدهمي ، المقاصد والوسائل ، http://www.alrashad.org/issues/11/11-Adhami.htm ، تم الدخول في ١٢/ ١/ ٢٠١٤م.
٢- صلاح الدين سلطان ، ثبوت الهلال بالحساب الفلكي .. أحكام فقهية ومقاصد تربوية ودعوية، ٦/ ١١/ ٢٠١٢م ، http://www.salahsoltan.com/DrasatBhoos/192/Default.aspx ، تم الدخول في ١٢/ ١/ ٢٠١٤م.
٣- شهاب الدين القرافي ، الفروق ، لبنان ، دار الكتب العلمية ، ١٩٩٨.
٤- يوسف القرضاوي ، كيف نتعامل مع السنة النبوية .. معالم وضوابط ، الولايات المتحدة ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، ١٩٩٣.
٥- عزالدين بن عبدالسلام ، قواعد الأحكام في إصلاح الأنام ، دمشق ، دار القلم ، ٢٠٠٠.
هذه الأهداف الثابتة تعتبر بمثابة المقاصد والمصالح التي ارادها الشارع وقصد منها ان تكون في حياة البشر حقيقة قابلة للتطبيق حتى تكون حياتهم سهلة ميسرة بعيدة عما يعكر صفوها. تلك الاهداف والمصالح هي مقصود التشريع وهدفه.
والإمام القرافي رحمة الله عليه يفرق بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل في كتابه "الفروق" فيقول : "موارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل. غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها. والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل. وكلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة فإنها تبع له في الحكم".
هذه الوسائل قد تتغير من زمان الى زمان ومن مكان الى آخر ، والنص عليها في القرآن الكريم ماهو إلا من قبيل بيان الواقع ، وتبيان أن هذه الوسيلة أو تلك هي مناسبة لمكان معين وزمان معين ، وعليه فليس المقصود الوقوف عندها ، بل المقصود هو العمل على التفكير في وسائل أخرى متطورة بتطور الزمان والمكان.
وفي هذا المعنى يقول الشيخ القرضاوي في كتابه "كيف نتعامل مع السنة" : "أن بعض الناس خلطوا بين المقاصد والأهداف الثابتة التي تسعى السنة إلى تحقيقها، وبين الوسائل الآنية والبيئية التي تعينها أحيانا للوصول إلى الهدف المنشود. فتراهم يركّزون كل التركيز على هذه الوسائل كأنها مقصودة لذاتها، مع أن الذي يتعمق في فهم السنة وأسرارها يتبين له أن المهم هو الهدف وهو الثابت والدائم ، والوسائل قد تتغير بتغير البيئة أو العصر أو العرف أو غير ذلك من المؤثرات".
وضوح هذا التفريق بين الأهداف والوسائل يعين العباد على التمييز بين مقاصد العبادات وأشكالها ، فيحرصون على اللب والجوهر كما يحرصون على الشكل والمظهر.
ومن التطبيقات في واقعنا الاسلامي المعاصر والتي تستدعي منا تمام التفرقة بين الاهداف الثابتة والوسائل المتغيرة هي رؤية هلال شهر رمضان والاختلاف الذي تعاني منه الأمة كل عام فتختلف الدول وتتفرق الشعوب وذلك بسبب الخلط بين المقصد والوسيلة او التمسك بالوسيلة وان ضاع المقصد!
جاء في الحديث الصحيح المشهور : " صوموا لرؤيته (أي الهلال) وأفطروا لرؤيته , فإن غم عليكم فأقدروا له " وفي لفظ آخر "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ".
هذا الحديث الشريف تحدث عن هدف وغاية وحدد وسيلة. فالهدف من الحديث هو صيام رمضان كله باايامه المحددة فلايضيعواً يوماً منه ولايصوموا يوما من شهرٍ آخر ، وذلك يكون بإثبات دخول الشهر أو الخروج منه , بوسيلة ممكنة يستطيع العباد القيام بها بدون تكلف او تعب.
في ذلك الزمن كانت الوسيلة المتاحة هي الرؤية بالإبصار ، كانت هذه الوسيلة سهلة معروفة ولذا قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتحديدها بعينها ، بخلاف اي وسيلة اخرى غير معروفة قد تعاني الأمة العنت من تطبيقها اذا لم تكن تعلمها او تعرف كيفية تطبيقها ، كالحساب الفلكي مثلاً! خصوصاً ان الأمة في ذلك الزمان كانت أمة أمية لا تكتب ولا تعرف الحساب، فكان تكليفها بهكذا تكليف فيه عسر، والله لا يريد بأمته إلا اليسر , وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن نفسه :"إن الله بعثني معلما ميسرا , ولم يبعثني معنتا".
لذا أليس من الأولى متى ماكانت هناك وسيلة أيسر في التطبيق وأقدر على تحقيق الهدف من الحديث وأبعد ماتكون عن الخطأ ، في ظل ماينعم به العالم أجمع في زماننا هذا من علمٍ بشري وتفوق حضاري بلغ مبلغاً لم يبلغه من قبل ، أن تأخذ الأمة بها وتسعى الى تطبيقها ، وبذلك تحقق الأمة الهدف من الحديث ، وتحقق بها أهداف أسمى ، فتجتمع الأمة ولاتختلف وتتوحد ولا تفترق ، وتتحقق وحدة الأمة في ظل وسيلة ميسورة وبدون الجمود على وسيلة ليست مقصودة لذاتها.
إن الأخذ بالحساب الفلكي هو وسيلة ناجعة اليوم ، والقبول به أولى ، فالسنة النبوية لا ترفض أي وسيلة أكمل في تحقيق المقصود وأدعى لتحقيق الغاية والمراد ، فالإنتقال بالأمة من الإختلاف الى الوحدة في شعائرها عبر وسيلة الحساب الفلكي هو هدف اسمى من خروجها من الوحدة الى الاختلاف عبر التمسك بنصية حرفية لوسيلة الابصار بالعين المجردة.
ومن هذا القبيل كان تعيين السواك لتطهير الأسنان في حديث "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " ، فالهدف هو طهارة الفم , حتى يرضى الرب ، وليس السواك في حد ذاته. فالسواك ليس هو المقصود لذاته , ولكن كانت الإشارة هنا لوسيلة ملائمة ميسورة في جزيرة العرب ، فكانت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم تلك من باب التيسيير ومن باب إستخدام مايؤدي الغرض بطريقة بعيدة عن العنت والتكلف.
بهذا الفهم كان من الأولى أن تتغير هذه الوسيلة في مجتمعات أخرى لا يتوفر لها السواك ، إلى وسيلة يمكن تصنيعها بوفرة تكفي مئات الملايين من الناس , مثل (الفرشاة) ، طالما تحقق الهدف والغاية وهو طهارة الفم التي ترضي الله عزوجل.
أختم بهذا القول النفيس للإمام العز بن عبدالسلام رحمه الله من كتابه "قواعد الأحكام في إصلاح الأنام" : "إن الواجبات والمندوبات ضربان: أحدهما مقاصد والثاني وسائل، وكذلك المكروهات والمحرمات ضربان: أحدهما مقاصد والثاني وسائل، وللوسائل أحكام المقاصد. فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل ثم تترتب الوسائل بترتب المصالح والمفاسد".
----------------------------------
قائمة المصادر:
١- رياض أدهمي ، المقاصد والوسائل ، http://www.alrashad.org/issues/11/11-Adhami.htm ، تم الدخول في ١٢/ ١/ ٢٠١٤م.
٢- صلاح الدين سلطان ، ثبوت الهلال بالحساب الفلكي .. أحكام فقهية ومقاصد تربوية ودعوية، ٦/ ١١/ ٢٠١٢م ، http://www.salahsoltan.com/DrasatBhoos/192/Default.aspx ، تم الدخول في ١٢/ ١/ ٢٠١٤م.
٣- شهاب الدين القرافي ، الفروق ، لبنان ، دار الكتب العلمية ، ١٩٩٨.
٤- يوسف القرضاوي ، كيف نتعامل مع السنة النبوية .. معالم وضوابط ، الولايات المتحدة ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، ١٩٩٣.
٥- عزالدين بن عبدالسلام ، قواعد الأحكام في إصلاح الأنام ، دمشق ، دار القلم ، ٢٠٠٠.
No comments:
Post a Comment